arablog.org

جيجل: الجنة المنسية

على مرمى حجر من السحر و قبالة الأفق المعلق بأسوار الأمنيات، حيث تبسط السماء راحتها للغيوم فتمخرها ببطء ساحبة معها ظلالا تلثم الأرض تارة و تارة أخرى تلوّح للبحر باعتداد ، هناك حيث يحلق النور مزهوا بأهازيج الصباح أو ينسحب مثقلا مع هتافات المساء ، حيث تهب الرياح نحو الجمال ويتألق الندى على شرفات الورود ، هناك حيث ولدت جدلية الجبل والبحر وانبثقت كل شذرات الوُجد مشتتة بين خُضرة وزُرقة، هناك تتربع جيجل كعروس على عرش الساحل تحيطها هالة النوارس ويحميها سوار الجبال.

لم تكن يوما كأي مدينة تتربص بالأرواح لتخلبها بماضيها الباهر أوتترصد العيون لتغريها بجمالها الهادر ، ولم تكن يوما لتتبختر ببهرج الحاضر ومبانيه بتعاليها المستفز ، بل هي ليست أكثر من مدينة بكر خجول تفيق على همسات شفق متورد ناعم .. تناغي الغيوم ، تشاغل البحر وترهقه ، وفي المساء تغفو ليحدق إليها الليل بألف نجم.

ورغم هذا هي مدينة تحترف الحسن بامتياز ، تتوشح الهدوء وتعرف كيف تربت على الروح ممعنة في الهمس بأحاجٍ يسبلها شموخ جبالها أو ينسجها ضوء المنارات الوامض بخفوت..

جيجل سيدة الأسئلة المحمومة بلا منازع ، ففي غفوة الإجابات الضائعة الهاربة أو المختبئة ، تفضل المناورة وتقيم كمائن الحنين للأرواح العابرة عند منعطفات الدهشة، تزرع ألغام الاشتياق عند مفترقات أوصال فتنتها ، تداهم القلوب بشباكها الزرقاء ؛ فهي على خجلها لا ترضى بأنصاف الغنائم من العشاق و المريدين.

ليس هذا غرور مدينة ، كلا ! فجيجل لا تعرف الغرور وإن زهت بعض الشيء بفتنها ، لكنه مجرد اعتداد، أو ربما هو مجرد مشاغبة لا أكثر ولا أقل ، ويحق لها ذلك ، إذ مع حسنها الخلاب نسي التاريخ أن يهيل عليها شيئا من قداسته فهي لا تذكر الكثير من ماضيها البعيد ، لكنها تذكر حاضرها جيدا وتعايشه بأوجاعه وبؤسه، فالهامش الذي ألقيت فيه لا يتسع لحسنها ولا حتى لمكائدها الجميلة ، والظل الذي سُحبت إليه أضحى وبالا تذبل في برودته روعتها ..

جيجل لا تذكر الكثير من ماضيها البعيد ، ومع هذا فهي لاتزال تخبئ في جعبتها أنساما فينيقية وبصمات رومانية ، وهوية عربية إسلامية ، وهمسات جنوية ، لكنها لم ولن تنسى السفن العثمانية إذ جادت عليها بفرسان البحر يلبون استغاثتها ويذودون عن حماها ، وهي لا تدري إلى الآن أيهما انبهر بالآخر غير أنها تدري أن ذكراهم مازالت موشومة في ذاكرتها .

لكنها تذكر حاضرها جيدا وتعايشه بأوجاعه وبؤسه، فالهامش الذي ألقتها إليه أيادي الخفاء لا يتسع لحسنها ولا حتى لمكائدها الجميلة ، والظل الذي سُحبت إليه أضحى وبالا تذبل في برودته روعتها ، هي إذن فردوس مكتوم وجنة منسية لم تعد تعرف سوى كيف تشد إليها ياقة الترقب أمام نزف حسنها الذي تنهشه الأيادي العابثة غير عابئة بمآلها !

ورغم هذا تبقى مدينة حسناء تحتفي بقداسة الجمال وتحتفظ بغزارة معجمها: بحر وشاطئ ونورس وجبل ومنارة ، هي حكايات تكفي لنسج ألف حكاية وألف لغز !

النّص صوتا : https://soundcloud.com/ranaglow/1sjbtwqxhgbp

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Plugin from the creators ofBrindes :: More at PlulzWordpress Plugins